"أَمرَ ببناءِ هذا البابِ، المسمّى بابُ الشّريعةِ -أسعدَ اللهُ بهِ شريعةَ الإسلامِ، كما جعلهُ فخرًا باقيًا على الأيامِ-مولانا أميرُ المسلمين، السّلطانُ المجاهدُ العادلُ أبو الحجّاج يوسف، ابنُ مولانا السّلطانِ المجاهدِ المقدّسِ، أبي الوليد بن نصر، كافي الله في الإسلام صنائعه الزّاكية، وتقبّل أعمالَه الجهاديّةَ، فتيسّر ذلك في شهر المولد العظيم من عام تسعة وأربعين وسبعمائة، جعله الله عزّة وافية وكتبه في الأعمال الصالحة الباقية".
نقشت هذه العبارات بخط اندلسي جميل لتزين قوس باب الشريعة، أحد أبواب قصر الحمراء الذي غدا اليوم المدخل الرئيسي لهذا القصر.
في جنوب اسبانيا، وسط جبال الاندلس، عند نقطة الالتقاء بين سهل غرناطة الكبير متحدا مع جبال سيرانيفادا يقف حصن الحمراء العظيم شامخا يحرس المكان كحصون القصص الخيالية، حصن الحمراء قلعته تهيمن على افق غرناطة واسواره العظيمة محاطة بسبعة وثلاثين برجا عملاقا ، صمّم من الخارج بحيث يبثّ رسالة عسكرية ويعكس قوة الحكّام ، لكنه ليس مجرّد حصن ، إنه شبكة مذهلة من القصور المختلفة بناها عدد متعاقب من السلاطين عبر 150 سنة .
لم يتكوّن قصر الحمراء بالصورة المعروفة حاليّا مرّة واحدة، فقد تطورت أشكاله وأضيفت له إضافات عبر مرور الوقت، وقد بناه أحد ملوك الطوائف في القرن الخامس، لكنه يعتبر درّة بني نصر لأن محمد بن الأحمر النصري هو من جاء إليه وأعاد ترميمه وبناءه بعد أن هوجم من ملوك بني قشتالة فهرب إليه واستوطن فيه وقرّر تأسيس مملكته ودولته إنطلاقا من هذا الحصن العظيم
بعدها جدّد بناءه وأضاف أبراجه الضخمة التي توحي للأعداء القشتاليين بالهيبة والقوّة، كما يعود له الفضل في إيصال المياه للمملكة من مكان منخفض إلى الهضبة، حيث استطاع سحب مياه النهر الذي ينخفض 100 متر عن الهضبة مستخدماً للمرة الأولى تقنية الأفنية والنواعير.
بعد محمد بن الأحمر تسلّم ولده محمد بن محمد النصري الحكم، فبنى الحصن الجديد في القصر، كما صمم مسجداً ضخما هو اليوم نفسه كنيسة السانتا ماريا، وأضاف بعض الأجنحة الجديدة. تسلم بعده الملك السلطان أبو الوليد إسماعيل الذي سرعان ما سلم السلطة لابنه السلطان يوسف أبو الحجاج والذي يعد من أعظم سلاطين مملكة غرناطة، قدم الكثير لهذا القصر، حيث شيد أفخم وأجمل أجنحة الحمراء، وكما سبق فإن الفضل يعود إليه في تشييد باب الشريعة المؤدي إلى الشارع، والذي أصبح الباب الرئيس للقصر.
الحمراء ليس مجرد معقل عسكري قوي انه قصر مترف مزدان بباحات فائقة الجمال ومسرح دام لمكائد مميتة وأشهر صرح معماري حي للهندسة الإسلامية في العالم الغربي. ويرجح بعض الباحثين سبب تسميته بالحمراء، إلى لون التربة التي يمتاز بها التل الذي تم تشييده عليه أو حجارته الضاربة للحمرة التي بني منها. ويرى آخرون سبب التسمية تعود إلى بني الأحمر، وهم بنو نصر الذين كانوا يحكمون غرناطة انذاك.
كنوز الحمراء تتمثل في قصورها تصاميم معمارية فريدة ونوافير مياه تبثّ الحياة في الباحات الرئيسية تبقى إلى اليوم شاهدة على عبقرية المهندسين والمعماريين المسلمين. حيث يتألف قصر الحمراء من عدّة أبراج وأبواب وقاعات وأجنحة من أهم الأبراج: برج الأسيرة، وبرج الأميرات، وبرج قماريش. أما الأبواب، فأهمها: باب الشريعة الذي ذكرناه في بداية المقال. خلف الباب يباغتك مصلى ضخم تتربع فيه اليوم اللوحة التي يفخر بها الإسبان، لوحة تسلمهم الأندلس من العرب بعد حصار غرناطة الطويل، إذ يظهر في اللوحة كل من إيزابيلا وفرديناند. نذكر أيضا فناء الريحان الكبير، بهو السفراء، فناء السرو، قاعة الأختين، لكن أجمل وأهم ما في قصر الحمراء هو جناح الأسود، الذي يحتوي على "بهو الأسود" الشهير. قام بإنشاء هذا الجناح السلطان محمد الغني بالله. وهو بهو مستطيل الشكل أبعاده "35م × 20م" تحيط به من الجهات الأربع أروقة ذات عقود يحملها 124 عمودا من الرخام الأبيض صغيرة الحجم وعليها أربع قباب مضلعة. في وسط البهو "نافورة الأسود"، على حوضها المرمري المستدير اثنا عشر أسدا من الرخام، تخرج المياه من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل وهي عبارة عن ساعة مائية.
غرناطة عروس المنطقة الاندلسية الاسبانية رائحة التاريخ تفوح من منازلها البيضاء وازقتها الضيقة وقصرها الحصين الذي يعتبر حاليا من أعظم المباني في العالم حيث يتميز بأقواسه الكثيرة وقببه ونوافذه المزينة بالزجاج الملونة التي يبلغ عددها 365 نافذة كعدد أيام السنة والغريب في الأمر أن أشعة الشمس تدخل إلى داخل القصر كل يوم من خلال نافذة من هذه النوافذ بحسب عدد أيام السنة. وهذا الأمر يدل على دقة وعبقرية الفن الهندسي المعماري الذي استعمله العرب في بناء هذا القصر.
كل ما سبق يجعل الزمن يقف بين يدي الزائر ويعود لألف عام مضى، وكأنك كنت تعيش وترقص وتكتب الشعر على جدرانه. تجد نفسك امام أهم معلم إسلامي باق في العالم الغربي مزيج بين العقل والروح، معلم تتعانق فيه الديانات والثقافات.
Posté Le : 22/06/2021
Posté par : nootapedia
Ecrit par : بسمة تريكي
Source : https://www.nootapedia.com/post/10/%D9%82%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B1%D8%A3%D8%B3-%D8%BA%D8%B1%D9%86%D8%A7%D8%B7%D8%A9